دموع على المنصة.. وهدية للوطن
بين نشيج البكاء وصوت الكلمات المتقطعة، قدّم البقالي الميدالية الفضية هدية إلى الملك محمد السادس والشعب المغربي. لم يتحدث عن خيبة شخصية، بل عن مسؤولية وطنية:
"أهدي هذه الميدالية للشعب المغربي، للملك محمد السادس نصره الله، لعائلتي ولكل من دعمني. فعلت كل ما بوسعي، وصلت للحاجز الأخير ولم أوفَّق، لكن هذه هي الرياضة."
هذه العاطفة الصادقة جعلت الجماهير ترى فيه أكثر من عداء: ترى فيه ابناً بارّاً للوطن، مقاتلاً يركض بروحه قبل ساقيه.
من الفقرات الأولى إلى القمم العالمية
سفيان البقالي، المولود في 7 يناير 1996 بفاس، بدأ مسيرته متواضعاً مثل كثير من العدائين المغاربة. لم يكن الطريق سهلاً: مركز رابع في بطولة العالم للناشئين سنة 2014، ثم ظهور باهت نسبياً في بطولة أفريقيا. لكن سرعان ما أعلن عن نفسه في ريو 2016، حين حلّ رابعاً في أولمبياده الأول.
منذ ذلك الحين، بدأت قصة صعود استثنائية: فضية بطولة العالم 2017، برونزية 2019، ثم ذهبية أولمبياد طوكيو 2020 التي أعادت للمغرب بريقه في ألعاب القوى بعد 17 سنة من الغياب عن الذهب الأولمبي. تبعها إنجازات تاريخية: ذهبية يوجين 2022، ذهبية بودابست 2023، وذهبية أولمبياد باريس 2024، التي جعلته ثاني عداء في التاريخ يحتفظ باللقب الأولمبي مرتين متتاليتين بعد 88 عاماً.
منذ بداياته المتواضعة في فاس، كان البقالي يحمل حلماً أكبر من مجرّد الركض. حلم أن يرى العلم المغربي مرفوعاً في أكبر المحافل، وأن يمنح جمهوره فرحة تليق بتاريخ عريق في ألعاب القوى. لم يكن الطريق مفروشاً بالورود، بل مملوءاً بالتضحيات، بالإصابات أحياناً، وبالضغوط دائماً، لكنه ظل ثابتاً على هدفه: تشريف المغرب.
التضحية أسلوب حياة
في نهائي بطولة العالم بطوكيو، ورغم أنه لم يعتل منصة التتويج بالذهب، سرق البقالي الأضواء بصدق مشاعره. دموعه على المضمار لم تكن دموع خسارة، بل كانت اعترافاً صريحاً أمام العالم: "لقد أعطيت كل ما أملك، فقط لأجل المغرب".
في تصريحاته العاطفية عقب السباق، أكّد أن فخره الحقيقي لا يكمن في الميدالية، بل في تمثيل وطنه بأمانة، وأن كل جهد بذله كان من أجل الجماهير المغربية التي تسانده في كل خطوة.
تحدث البقالي بصدق عن التضحيات: "دائما ما كنت مستعدا 100٪. تضحياتي كبيرة طيلة السنة. بعد أولمبياد باريس أخذت على عاتقي أن أحضر إلى هنا وأدافع عن اللقب العالمي. الخطة كانت ناجحة، لكن آخر حاجز كان صعباً، وعلي أن أتقبل ما كتبه الله."
هو لا يرى الهزيمة نهاية، بل امتداداً لمسار من الكفاح. في كل مرة يسقط فيها، يعود أكثر قوة.
رمز وطني قبل أن يكون بطلاً عالمياً
ما يميز البقالي ليس فقط أرقامه وإنجازاته، بل صراحته وبساطته. دموعه في طوكيو، شكْره لوالديه وعائلته الصغيرة، امتنانه للشعب والجامعة والملك، كلها تفاصيل ترسم صورة إنسان حقيقي لا يخشى إظهار ضعفه أمام الملايين.
هو يدرك أن الميداليات تُعلّق على الرقاب، لكن الوطنية تُكتب في القلوب. ولهذا يركض سفيان البقالي من أجل المغرب قبل أن يركض من أجل نفسه.
البقالي لا يقيس نجاحه فقط بالميداليات، بل بقدرته على الاستمرار في القتال حتى آخر لحظة. يؤمن أن السباقات الكبرى ليست اختباراً للسرعة فقط، بل امتحاناً للإرادة. ورغم أن منافسيه يزدادون قوة عاماً بعد عام، إلا أن ما يميّزه هو تلك الروح التي لا تُهزم، والتي تجعل منه رقماً صعباً في كل مضمار.
ملهم جيل جديد من الأبطال
قصة سفيان البقالي لم تعد مجرّد إنجازات رياضية على المضمار، بل أصبحت مرآة تعكس هوية جيل جديد من الأبطال المغاربة. جيل يزاوج بين العالمية والوطنية، بين الانتصارات الشخصية والتضحيات من أجل رفع العلم المغربي.
فدموعه في طوكيو لم تكن دموع خسارة، بل إعلاناً صريحاً أن البطولة لا تُقاس دائماً بالذهب، بل بصدق الانتماء وروح التضحية. في زمن باتت فيه الرياضة صناعة وأرقاماً، يظل البقالي نموذجاً لرياضي يرى في حب الوطن أسمى وسام يمكن أن يحمله.
بهذه الروح، يثبت أن المغرب لا يملك فقط بطلاً أولمبياً، بل رمزاً إنسانياً يلهم الأجيال الصاعدة لتؤمن بأن الرياضة مشروع حياة، وأن الركض باسم الوطن أجمل من أي ميدالية.